اخر الاخبار

خبير مصري يتتبع خطى البلاغة من أشعار العرب إلى شوارعهم

ألقى الدكتور عماد عبد اللطيف أستاذ البلاغة المصري البارز، محاضرة عن بعد ضمن البرنامج الإثرائي لجامعة كاليكوت الهندية، تتبع خلالها نظرة العرب للبلاغة وكيف تحولت من تعبير جميل تتداوله الألسنة في الأسواق والمحافل العامة، إلى مادة جافة على ألسنة النخب لا تكاد تخرج عن جدران الجامعات وندوات المثقفين، وتطرق لبلاغة العامية، وخطوات استعادة الصداقة بين البلاغة والحياة.

وفي الورقة التي أُلقيت قبل يومين بعنوان “البلاغة وخطابات الحياة اليومية.. سيرة الامتزاج والافتراق”، والتي نستعرضها في “كلمن”؛ أشار المحاضر إلى أن علاقة البلاغة بالحياة ظلت مثل علاقات الغرام عبر العصور؛ تعارف وتقارب يعقبه هجر ومن ثم وصال من جديد.

البلاغة والحياة

للبلاغة وجهان؛ الأول النصوص والكلام الذي يحقق الإقناع والتأثير والجمال، والذي ابتكره البشر حين أدركوا أن اللغة يُمكن أن تُستعمل لوظائف غير الإخبار، وأنه يمكن تطويعها كي تكون أداة تأثير في العقول والنفوس. والثاني وجه العلم الذي يُعنى بدراسة الكلام البليغ.

أما خطابات الحياة اليومية بحسب تعريف ” عبد اللطيف” فهي : “كلُّ العلامات التي يدركها مستعملوها على أنها يومية وعادية، سواء أكانت نصوصًا أم كلامًا أم صورًا أم رموزًا أم غيرها”، من تلك الرموز في عصرنا الإيموجي والهاشتاج.

البلاغة من أبي العتاهية لإعلان كادبوري

قد يتحول ما هو متداول في الشأن اليومي في زمان أو مكان معين إلى خطاب متعال على الحياة اليومية بمرور الوقت؛ فقصيدة الشاعر العباسي أبي العتاهية ومطلعها (أَيا عَجَبَ الدُنيا لِعَينٍ تَعَجَّبَت. وَيا زَهرَةَ الأَيّامِ كَيفَ تَقَلَّبَت) وفيها ذم تقلبات الحياة، كانت في عصرها متداولة على نطاق شعبي واسع!، واليوم لا يكاد أحد من العامة يفهمها، أما أغنية المطرب الشعبي حسن الأسمر (كتاب حياتي يا عين) فهي معروفة ومتداولة.

وقد تنظر جماعة ما إلى نشرة أخبار الساعة التاسعة في التلفزيون المصري، على سبيل المثال، على أنها خطاب يومي حياتي، في حين يُدركها آخرون على أنها مفارقة (لحياته) اليومية، ومتعالية، ونخبوية.

وتميل خطابات النخب للفصحى وخطابات الشارع للعامية، لكن تلك ليست قاعدة دائمًا؛ ولننظر –مثلًا- في نص إعلان كادبوري للشكولاته، حين يخرج صوت ناعم يتساءل: ماذا أقول عن إحساسها الغني؟! ماذا أروي عن مذاقها الجذاب؟! ثم الطعم الذي يذوب في الفم، يا لها من روعة!”

يأخذ الإعلان شكل القصيدة، في تركيب جمله وإيقاعه ومجازاته. فهو يتكون من ثلاثة أسئلة بلاغية، تؤدَّى على خلفية موسيقية تنسجم مع إيقاع الكلمات، لكنه مع ذلك كإعلان يتداوله العامة ببساطة.

في المقابل، فإن درسًا من دروس الفيزياء يشرح فيه أستاذٌ جامعي قوانين فيزياء الكم باللغة العامية، سيظل خطابًا محصورا في دائرة محدودة.

حين كان الشعر في الشوارع والأسواق

بنظرة ممتدة منذ عصر ما قبل الإسلام حتى وقتنا الراهن، في البقاع التي كانت العربية فيها لغة أساس لعلم البلاغة أو خطابات الحياة اليومية نفسها. وهي رقعة جغرافية تمتد من الشرق الأقصى على حدود الهند والصين وآسيا الوسطى حتى مغرب شمس المحيط الأطلسي، ومن أواسط إفريقيا حتى إسبانيا شمالا، يدلل د. عماد عبد اللطيف على أن علاقة البلاغة بالحياة تتطور من الامتزاج للفراق والعكس.

نشأت البلاغة في حضن الحياة اليومية، وعاشت طفولتها في كنف المجال الديني والاجتماعي والسياسي اليومي. وحين انشغلتْ – قديمًا – بنصوص مثل الوصية والحكمة والخطابة والشعر، كانت هذه الأنواع تنتمي بالأساس إلى الحياة اليومية، وليس حقل الأدب ومحبيه، وهذا ما نعنيه بامتزاج البلاغة بالحياة، حين يتداولها العامة بينهم.

كان الكلام البليغ عند عرب الجزيرة في عصور نشأة البلاغة خطابًا يوميًا حياتيًا. فالخطبة تصحبهم في حفل الزواج، وطقوس التعبد، ومحاربة العدو، والصلح بين المتخاصمين، وأخذ البيعة لحاكم جديد، ووداع المتوفين، وغيرها من أفعال الحياة اليومية. والشأن نفسه مع الرسالة والمثل والحكمة والوصية والأسطورة والرجز وسجع الكهان.

وحين ننظر في عبارة “الشعر ديوان العرب”؛ أي كتابهم الجامع، لا يسعنا إلا الاعتراف بهذا الامتزاج بين الحياتي والبلاغي، وعبر وسيلة هي الأكثر بلاغة كالشعر، كان الناس يتداولونه على ألسنتهم ببساطة.

متى هجر العرب بلاغتهم؟

لأن دوام الحال من المحال، سرعان ما تغيرت شروط الحياة العربية، وظهرت بوادر الانفصال بين البلاغي والحياتي. فقد هاجر العرب من أوطانهم في عصر تأسيس الإمبراطورية الإسلامية، وأقاموا في مجتمعات غير متجانسة، بين أقوام لا يُشاطرونهم اللغة، ولا الثقافة، ولا العادات، ولا التصورات الجمالية نفسها، لكنهم في حاجة ماسة إلى التواصل معهم، وإنجاز وظائف بلاغية محورية، مثل الإقناع والتأثير. وعلى الرغم من وجود مقاومة للاندماج في المجتمعات الجديدة، فقد كان لزاما على عرب الجزيرة الانخراط في خطابات حياتية بلغات غير لغاتهم، وبلاغات غير بلاغاتهم.

من هنا ظهرت الفجوة بين الحياتي والبلاغي، لتتوسع لاحقًا بسبب اتساع الفجوة بين عرب الجزيرة أنفسهم، في ثقافاتهم، وعاداتهم، ولغاتهم، بسبب تحول البوادي إلى حواضر، وتحول التجمعات القبلية الصغيرة إلى مدن، وغدت الفجوة تتسع رويدًا رويدًا بين البلاغي والحياتي.

لقد تفرق عرب الجزيرة باتجاه البلدان المفتوحة بعد الإسلام. وتسبب هذا الاقتلاع الطوعي من الجزيرة إلى تعاظم الحنين إلى الإرث الخطابي المرتبط بأوطانهم الأصلية، هنا تم النظر إلى الأدب العربي منذ الجاهلية حتى نهاية العصر الأموي باعتباره ذروة البلاغة ، والتي لا يمكن استعادتها.

بلغت الفجوة أقصى اتساعها في المجتمعات المُعرَّبة في شمال إفريقيا، ووسط آسيا، والتي ظلت تستعمل لغاتها الأصلية لفترات استمرت قرونًا في حالة مصر مثلا. وأدت عملية التعريب إلى امتزاج العربية بلغات البلدان الأصلية، وكان هذا سببًا آخر في نبذ خطابات الحياة اليومية في هذه البلدان، بوصفها نتاج لغات هجينة، مولدة، تمثِّل خطرًا على الفصحى نفسها. فاستحكمت الفجوة بين البلاغي والحياتي، ووصلت حد العداء.

ولعل المفارقة الأكثر وضوحًا في هذا السياق أن معظم كبار البلاغيين العرب بعد القرن الخامس الهجري انتموا إلى بيئات لم تكن العربية لغة التواصل اليومي فيها، فعبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي والرازي وابن الأثير والتفتازاني وغيرهم نشأوا في بلاد فارس وتركيا ودول آسيا الوسطى، حيث لم تكن العربية لغة الحياة اليومية. ولقرون طويلة كان تطوير علم البلاغة يُنجز في بيئات غير عربية، ويُدرَّس ويُعلَّم في سياقات نخبوية شبه مغلقة، بينها وبين عالم الحياة اليومية المحيط بها سور كبير.

أمين الخولي إمام مجددي البلاغة

كان على علم البلاغة أن يجسِّر هذه الفجوة بين البلاغي والحياتي كي يكتسب مشروعية استمراره، ويتجنب الانقراض. وخلال الربع الثاني من القرن العشرين جرت أهم تلك المحاولات على يد إمام مجددي البلاغة في القرن الماضي؛ الشيخ أمين الخولي. فعلى مدار ثلاثة عقود، حاول الخولي ترسيخ تصور للكلام البليغ يربطه بالحياة اليومية تدريسًا ودراسة، ومن ذلك كتابه “في الأدب المصري”، فقد حاجَّ بأن البلاغة شركة يتقاسمها الفصيح والعامي من الكلام، ويُنتجها المثقف والرجل من العامة على حد السواء.

لكن محاولة الخولي عانت من التعارض بين تبني تصورات رومانسية للقول الجميل والدعوة إلى دراسة خطابات حياة يومية، تتسم بالعملية والنفعية.

وسرعان ما جاءت ثورة يوليو لتضع قيودًا على الصلة بين الجامعة والمجتمع، وتُطيح بمشروع الخولي، وتطيح بالخولي نفسه من جامعة القاهرة، لتعود البلاغة العربيّة حبيسة القاعات المغلقة!

أزمة التعالي على العامية البليغة

لا تزال محاولات كثيرة في سبيل استعادة الجسر بين البلاغة والحياة في وقتنا الراهن.

ويدعو أستاذ البلاغة المصري إلى  إعادة تعريف البلاغة لتشمل علامات غير لغوية مثل الصور، والرموز، وكلامًا من الحياة اليومية مثل الفكاهات، والأمثال الشعبية، والحوارات اليومية، والتغريدات، والهاشتاجات، وغيرها. 

لكن الأهم براي أستاذ البلاغة هو التخلي عن تلك النظرة التي تحيط اللهجة العامية بوصفها “تشوهًا” للفصحى، وتشويهًا لها. وعادةً ما يربط هؤلاء العامية بالسفلة من الناس، في نظرة شبه عنصرية للخطابات الشعبية.

تستند كراهة العامية إلى أن الفصحى هي لغة الدين والهوية، وأن العاميات تشكل تهديدًا لها، ومن ثمَّ، تهديدًا للدين والهوية، رغم أن العامية تشكل – كما يشير المحاضر – أداة مهمة لصياغة الهويات القومية والدينية لدى مستعمليها.

لقد قدمت العامية نصوصًا وخطابات عالية البلاغة بالمعنى التقليدي لها، ومنها أعمال صلاح جاهين التي لا تقل بلاغة عن أعمال المتنبي!.

لازال كثيرون يرددون مقولة ابن سنان الخفاجي: كلُّ كلام بَلِيغ فَصِيح، وليس كلُّ فَصِيح بَلِيغًا” وهذا الاتجاه يسلب كل قول ورد فيه لفظ “من ألفاظ العامة (من الناس)”  من دائرة الفصاحة التي هي شرط مسبق للبلاغة. إذ يتعين، بحسب ابن سنان، أن يكون كل بليغ فصيح. وعدَّ إيراد كلمات تنتمي إلى العامية فعلًا مذمومًا منبوذًا. فما بالنا بمن يكون كلامه كله عاميًا!

والحقيقة أنه رب كلمة عامية في سياق محدد تكون أنجع وأجمل وأكثر إقناعًا وتأثيرًا في سياقها من أية كلمة أخرى فصيحة. ولننظر، على سبيل المثال، في كلمة “طز” التي لخصت موقف محجوب عبدالدايم في رواية نجيب محفوظ “القاهرة 30″ من البشر والعالم والحياة. فقد اعتاد تكرار “طظ” كلما هرسته الأيام بأسنانها، وكلما هرس هو القيم والأخلاق بأسنانه.

تُلخص كلمة “طظ” في المقتطف السابق موقف بطل الرواية من العالم، وتتحول إلى أيقونة دالة على البطل، وعلى نمط من التفكير والسلوك المجتمعي معًا.

نبذة عن المحاضر

الدكتور عماد عبد اللطيف يعمل أستاذًا مشاركًا في جامعة قطر. تميز بدراسة أشكالًا بلاغية مهمَّشة، مثل الخطب، ومقالات الصحف، والحكايات الشعبية؛ والـ(توك شو)، والجرافيتي، ومنشورات الفيسبوك، وصولا لملاعب الكرة. كما قدّم دراسات عن الاستجابات غير اللغوية مثل التصفيق، والهتاف وغيرها من العلامات غير اللفظية، إلى جانب ترجمات فلسفية وبلاغية لافتة.

شارك في تأليف الإصدار الثالث من “دائرة المعارف الإسلامية”، “وموسوعة أكسفورد للشخصيات الإفريقية البارزة”، وقد حاز جوائز هامة: جائزة دبي للحوار مع الغرب (2010)؛ جائزة المهاجر الاسترالية (2011)؛ جائزة أفضل كتاب اجتماعي من معرض القاهرة للكتاب، 2013، عن إصداره “بلاغة الحرية”.

Shaimaa Essaخبير مصري يتتبع خطى البلاغة من أشعار العرب إلى شوارعهم