اخر الاخبار

حقائق مبهرة عن نشأة الخطوط العربية (2-3)

” الخط كالروح في الجسد فإذا كان الإنسان وسيما حسن الهيئة كان في العيون أعظم وفي النفوس أفهم ، وإذا كان على ضد ذلك سئمته النفس ومجتهُ القلوب فكذلك الخط إذا كان حسن الوصف مليح الرصف مفتّح العيون أملس المتون ، كثير الائتلاف قليل الاختلاف هشت إليه النفوس واشتهته الأرواح حتى إن الإنسان ليقرأه وان كان فيه كلام دنيء ومعنى رديء مستزيدا منه ولو كان كثر من غير سآمة تلحقه . وإذا كان الخط قبيحا مجتّه الإفهام ولفظته العيون والأفكار وسئم قارئه وإن كان فيه من الحكمة عجائبها ومن الألفاظ غرائبها”

هكذا عبّرت كلمات القاضي والفقيه اللغوي القلقشندي عن تقدير العرب منذ القدم لفن الخط العربي، وهو الذي كان يدفع بصاحبه للمجد ومجالسة الخلفاء والاتصاف بالحكمة، وقد لعب الخط العربي دورا جوهريا في حفظ ذاكرة العرب والقيام بوظيفة المراسلة وتدوين العلوم وكان حلية وزينة في كل بيت ومسجد وقصر، ولذا قالوا :  ” الخط نصف العلم ، كل علم ليس في القرطاس ضاع ”

يقول المستشرق دونسون روس : ” إن حروف العربية مرنة سهلة لها في النفوس ما للصور من الجمال الفني ولا سيمّا حين تنقش على المباني، سواء كان ثلثا أو نسخا أو كوفيا”.

في الحلقة الأولى تعرفنا على أصل الكتابة والخط العربي، وكيف ازدهر فن الخط في عهد المسلمين الأوائل، وما تأثير نسخ المصاحف على تطور فن الخط العربي، ثم متى ظهر التنقيط وما الحاجة إلى ذلك، واليوم نتعرف على نشأة اشهر الخطوط العربية كالكوفي والنسخ والثلث والديواني، ومن أشهر الخطاطين العرب وبعضهم له سير عجيبة كابن مقلة كاتب عصره الذي قطع الخليفة يده فكتب بالأخرى!

الأمويون.. العصر الذهبي للخط الكوفي والثلث

عمل الخلفاء الأمويون على تقريب الخطاطين وتفضيلهم على غيرهم، فكان لكلِّ خليفة كُتَّابه الذين يثق بهم، فيضعهم على رأس الدواوين ، وشجَّعوا على اختراع نوع من الورق عرف بالقرطاس الشامي.

لقد تعهَّد الأمويون تنشيط الخط منذ البدء بالحفر على المرمر والفسيفساء في زخرفة المساجد، ومنها قبة الصخرة في القدس، والجامع الأموي في دمشق، وقصر الحير وقصر الجوسق وغيرها، كما قام أغنياء الناس بتزويق المصاحف وتجليدها وتزيين جدران القصور.

خالد بن الهياج.. أجمل مخطوط لمصحف

شاعت حرفة الكتابة في أول الدولة الأموية بالخط الكوفي ويقال أن الخليفة عبد الملك بن مروان الذي كان خطاطا بارعا قد اخترع خطا سماه المنسوب تتساوي فيه نسب الطول والعرض والارتفاع، وفي عهده كتبت كل الرقاع بخط مسلمين، وأجمل مصحف عمل في عهده بقلم خالد بن الهياج.

جاء في الفهرست لابن النديم أن أول من كتب المصاحف في الصدر الأول ووصف بحسن الخط هو خالد بن أبي الهياج. كان ابن أبي الهياج كاتباً للخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، كان كتب له المصاحف والأشعار والأخبار، وهو الذي كتب في قبلة المسجد النبوي في المدينة المنورة بالذهب من سورة الشمس إلى آخر القرآن. وكان عمر بن عبد العزيز ممن اطلع على خط ابن أبي الهياج وأعجب به، وطلب منه أن يكتب له مصحفاً تفنن في خطه، فقلبه عمر واستحسنه إلا أنه استكثر ثمنه فرده عليه.([1])

قطبة المحرر المصري .. رائد خط الطومار

ظهر في هذه الفترة الخطاط قطبة المحرر وهو خطاط مصري وكانت آنذاك ولاية عربية، الذي استنبط من الخطَّين الحجازي والكوفي نوعاً جديداً هو الخط الجليل، ويعتقد أنَّ قطبة المحرر هو أول من أبدع في تطوير الخطوط، وهو خط ضخم المعالم كان يستعمل في الكتابة على المباني.

ثمَّ اخترع قطبة خط الطومار وهو أصغر من الخط الجليل، كان خط الطومار يتراوح من 10 إلى 25 سم، ومن خط الطومار نشأ مختصر الطومار وقد أدى ذلك إلى الخط المحقق وسمي بجلي الثلث عند العثمانيين، وقد أدَّى المحقق إلى خط الأشعار، وخط الأشربة وخط السميعي، الذي أدَّى إلى الخط المدور والخط النرجسي.واخترع قطبة أيضاً خط الثلث وخط الثلثين سنة 136 هـ.([2])


قال عنه ابن النديم في كتابه “الفهرست”: أول من كتب في أيام بني أمية قطبة وهو استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض وكان قطبة أكتب الناس على الأرض بالعربية.

أصبح “قطبة المحرر” الخطاط الخاص للوليد بن عبد الملك. وعرف عن هذا الخطاط كذلك بأنه كان يكتب له المصاحف والأشعار.وقد أدَّى خط الثلث إلى نشأة خط خفيف الثلث، وهو خط الرقاع أو خط التوقيع، وثقيل الثلث الذي أدَّى إلى خط المفتح وخط الزنبوري وخط الحرم ومن خط الحرم نشأ خط العهود.([3])

تطور الخط الكوفي

وأمَّا خط الثلثين فقد كانوا يكتبون به السجلات فيما يقطعه الأئمة، وقد كان يسمَّى خط السجلات، وقد أدَّى خط الثلثين إلى خط المؤامرات، وهذا أدَّى إلى الخط المنثور، والمنثور أدَّى إلى خط الديباج، والديباج بدوره أدَّى إلى خط الخرفاج.

وفي الكوفة عني القوم بتجويد نوع من الخط هندست أشكاله ومطت عراقاته، واستقامت وتميز، عن الخطوط الحجازية وسمي بالخط “الكوفي”.

ومن الكوفة انتشر هذا النوع من الكتابة في أرجاء العالم الإسلامي، وكتبت به المصاحف، وتحلت به المباني ودمغت به النقود، في حين ظل الخط الحجازي اللين في خدمة الدواوين لمرونته وسرعة كتابته. ([4])

ولقد تميز الخط الكوفي بمسحته الزخرفية وتعدد صوره وطغت شهرته على غيره من الخطوط، وانتشرت أشكال الخط الكوفي ومنها “اليابس” و”المصحفي” .

 

العباسيون .. إبداعات خط الجليل والثلث

اشتهر في أوائل العصر العباسي في العراق رجلان انتهت إليهما الرئاسة في جودة الخط وهما: الضحاك بن عجلان (وكان في خلافة أبي العباس السفاح)، وإسحاق بن حماد (وكان في خلافة المنصور والمهدي) وفي عهدهما بلغت الخطوط العربية أحد عشر نوعاً هي:

خط السجلات والجليل والديباج (نشأ من خط المنثور) والطومار والثلاثين والزنبور (نشأ من ثقيل الثلث) والمفتح والمدمرات والعهود (نشأ من خط الحرم) والقصص والخرفاج (نشأ من خط الديباج.([5])

وفي عهد المأمون تنافس الكتَّاب كثيراً في تجويد الخط ونشأ من أنواع الخط:الخط المرصع (نشأ من الخط الرياسي)، وخط النساخ (نشأ عنه خفيف النسخ، وهو خط الغبار). والخط الرياسي (نشأ من خط النصف)، وخط الرقاع (لكتابة المكاتبات اللطيفة والقصص)، وخط الحلية.. وكانت هذه الخطوط أكثر من عشرين نوعاً.

وقبل أن ينقضي القرن الثالث الهجري، اخترع إبراهيم الشجري من الخط الجليل (خط الثلث وخط الثلثين) وجاء هذان الخطان بشكل أفضل من الذي اخترعه قطبة المحرر، والخط الثاني أعرض من الخط الأول.

وفي نهاية القرن الثالث الهجري اخترع يوسف الشجري، وهو أخو إبراهيم الشجري، خطاً جديداً سمَّاه (الخط المدور الكبير)، وقد أخذه من خفيف خط النصف، وقد أعجب بهذا الخط (الفضل بن سهيل) وزير المأمون، وأمر ألا تُحَرَّر الكتب السلطانية في كتابه إلا به، وسمَّاه (الخط الرياسي)، ثمَّ سمَّاه الناس بعد ذلك (خط التوقيع).([6])

ابن مقلة .. رائد النسخ والثلث يواجه بطش القصر

جاء أبو علي محمد بن مقلة الوزير (272 – 328 هـ) فضبط الخط العربي، ووضع له المقاييس، ونبغ في خط الثلث حتى بلغ ذروته، وضرب به المثل، كما أحكم خط المحقق، وحرر خط الذهب وأتقنه، وأبدع في خط الرقاع وخط الريحان، وميَّز خط المتن، وأنشأ الخط النسخي الحاضر وأدخله في دواوين الخلافة، وقد ترك ابن مقلة في الخط والقلم رسالته الهندسية. ([7])

وقد زاد ابن مقلة في الأوساط الفنية كخطاط أنه كان وزيرًا لثلاثة خلفاء، ولفترات مختلفة، فقد كان وزيرًا لجعفر المقتدر بالله، والقاهر بالله والراضي بالله. وحينما غضب عليه الخليفة الراضي بالله قطع يده اليمنى، لكنه لم يترك الخط، بل كان يربط على يده المقطوعة القلم حينما يشرع في الكتابة، ثم أخذ يكتب بيده اليسرى فأجاد كما كتب بيمناه. استمرت رياسة الخط لابن مقلة حتى القرن الخامس الهجري، فاشتهر علي بن هلال المعروف بابن البوّاب المتوفى سنة 413 هـ، فهذّب طريقة ابن مقلة في الخط، وأنشأ مدرسة للخط، واخترع الخط المعروف بالخط الريحاني.

ابن البواب..رائد زخرفة الحروف القرآنية

وفي القرن الخامس الهجري اشتهر في العراق رئيس الخطاطين علي بن هلال، المعروف بابن البواب والمتوفى سنة 413هـ، وتوالى تلامذته، وهكذا بلغت أنواع الخط في العصر العباسي نحو 80 نوعاً أو تزيد، وهذا ترف فني لم تبلغه أي أمة من الأمم.

مما سهل على ابن البواب النجاح في عمله مذهباً هو اتقانه لأعمال الرسوم والزخارف الجدارية، أي أنه كان يمتلك خبرة فنية، استطاع أن يطورها ويجعلها أكثر دقة واتقاناً في أثناء اشتغاله بتذهيب المصاحف، فكان أول من استخدم القلم المذهب أوائل السور، وابتكر ألوانا جديدة في الكتابة كالقرمزي.([8])

كان ابن البواب “توفى 2 جمادى الأولى 413هـ “، يمارس الزخرفة والتزويق، وقد سمي بهذا لاسم لأن أباه كان بوابا بالفعل، لكن ابنه نبغ في الخط، وترك واحدة من أرقى المنظومات في الخط سميت برائية ابن البواب في الخط والقلم، وهي مختصة بأدوات الكتابة، ومن آثاره الباقية: المصحف الذى كتبه فى بغداد سنة (391هـ = 1000م)، وهو محفوظ فى مكتبة “جستر بيتي” فى دبلن بأيرلندا، وهو مزخرف زخرفة رائعة لا تقل جمالاً عن خطه، وهى من عمل ابن البواب نفسه.

من هنا ظهرت أشكال جديدة للخط، وبدأ الكوفي ينسحب رويدًا من الحلبة، بعد أن وصل الكاتب العبقري محمد بن علي بن مقلى واشتق من الخطين “الجليل” و”الطومار” نوعا سماه “البديع” و وصل على غاية من الجمال وعرف بخط “النسخ”.

وبظهور “النسخ” انسحب الخط الكوفي من ميدان الكتابة الاجتماعية ورضى بأن يكون زاهدا ناسكا، قانعا بسكنى المساجد والمحاريب وزخرفة المصاحف، وذلك إلى جانب القصور والأسوار للحلية والتاريخ، لأنه طوع كاتبه يتمشى معه في كل زخرف وهندسة وتشكيل، مع بقاء حروفه على قاعدتها.([9])

ومنذ القرن الحادي عشر الميلادي قل استخدام الخط الكوفي في كتابة المصاحف وحل محله تدريجيا خط النسخ، واقتصر عليه وحده طوال القرون الخمسة الاولى في تدوين المصاحف، ومع ذلك فقد استمر الخط الكوفي متبعا حتى زمن متأخر في كتابة أسماء السور، وسار الفنانون شوطا كبيرا في تحسينه وتطويره، كما كان الحال بين الخطاطين بالنسبة لخط النسخ، حتى أننا أحيانا نجد هذين النوعين من الخط الكوفي والنسخ مجتمعين في مبنى واحد أو تحفة واحدة، إمعانا في التنويع الزخرفي والجمالي.

أما المصاحف التي خُطَّت في العصر العباسي فإن معظمها ترجع إلى القرن التاسع الميلادي، وهي مكتوبة على الرِّق بلونه الطبيعي، أو الملوّن الأزرق والبنفسجي أو الأحمر، وبمداد أسود أو ذهبي، وتظهر الحروف الكوفية فيها غليظة ومستديرة وذات مدَّات قصيرة، وجرَّات طويلة. وبلغت الخطوط في أواخر العصر العباسي أكثر من ثمانين خطًا، وهذه الكثرة شاهد على تقدم الفن والزخرفة إلى جانب الخط. وظهر في العصر العباسي خط اسمه الخط المقرمط وهو خط ناعم، حتى راح الخطاطون يتفنَّنون في رسم المصاحف رغم صغر الحجم، فهم يزوِّقونها، ويعتنون في جميع صفحاتها التي قد تصل إلى أدنى من (6×8 سم) وقد استطاع الخطاط أن يبري قلمه إلى جزء من المليمتر.

 

في الحلقة الأخيرة نتعرف على ريادة مصر للخط العربي وكيف نقلت الفن لاسطنبول، وكيف تطور فيها فن الخط الكوفي والثلث، ثم كيف ازدهر هذا الفن في اسطنبول مقر الخلافة العثمانية ونشاة خط الديوان، ثم كيف ازدهر خط النستعليق الزخرفي في إيران، وختامنا مع الخط العربي ومقوماته كفن تشكيلي مبهر.

المصادر:

[1] إسماعيل راجي الفاروقي: أطلس الحضارة الإسلامية، مكتبة العبيكان، ص: 511

[2] عبدالعزيز حميد صالح (د): تاريخ الخطوط العربية عبر العصور المتعاقبة، دار الكتب العلمية، ج1،ص: 340

[3] محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي، مرجع سابق، ص: 68

[4] حسن قاسم حبش: الخط العربي الكوفي، بيروت: دار القلم، ص:12، 13،14

[5] معروف زريق: كيف نعلم الخط العربي، بيروت: دار الفكر، ص:28

[6] المصدر السابق

[7] احمد شوحان: رحلة الخط العربي من المسند إلى الحديث، اتحاد الكتاب العرب، ص:28

[8] محمود عباد الجبوري: خط وتذهيب وزخرفة القرآن الكريم، ص:249

[9] المصدر السابق نفسه

Shaimaa Essaحقائق مبهرة عن نشأة الخطوط العربية (2-3)

Related Posts